كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأصحها وهو قول مالك وأبي حنيفة وأحمد والثوري أن عليه التعزير لأنه غير مشتهي طبعًا. والحديث ضعيف الإسناد وبتقدير صحته معارض بما روي أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن ذبح الحيوان إلا لأكله. ولا خلاف في أن السحق وإتيان الميتة والاستمناء باليد لا يشرع فيها إلا التعزير. البحث الثاني قد مر في أول سورة النساء أن حكم الزاني في أوائل الإسلام كان الحبس في البيوت في حق الثيب، والإيذاء بالقول في حق البكر، ثم نسخ بآية الزنا وبقوله صلى الله عليه وسلم: «الثيب بالثيب جلد مائه ورجم بالحجارة والبكر بالبكر جلد مائه وتغريب عام» والخوارج أنكروا الرجم لأنه لا ينتصف وقد قال تعالى {فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} [النساء: 25] ولأنه تعالى أطنب في أحكام الزنا بما لم يطنب في غيره، فلو كان الرجم مشروعًا لكان أولى بالذكر، ولأن قوله: {الزانية والزاني} يقتضي وجوب الجلد على كل الزناة وإيجاب الرجم على البعض يقتضي تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد. وجمهور المجتهدين خالفوهم في ذلك فأجابوا عن الأول بأن الرجم حيث لم ينتصف لم يشرع في حق العبد فخصص العذاب بغير الرجم للدليل العقلي. وعن الثاني بأن الأحكام الشرعية كانت تنزل بحسب تجدد المصالح فلعل المصلحة التي اقتضت وجوب الرجم حدثت بعد نزول هذه الآيات. وعن الثالث بأن تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد جائز عندنا لأن القرآن وإن كان قاطعًا في متنه إلا أن العام غير قاطع الدلالة فأمكن تخصيصه بالدليل المظنون. سلمنا إلا أن الرجم ثبت بالتواتر رواه ابو بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم وجابر والخدري وأبو هريرة وبريدة الأسلمي وزيد بن خالد في آخرين من الصحابة. وما نقل عن علي أنه جمع بين الجلد والرجم وهو اختيار أحمد وإسحق وداود محمول على مثل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلًا زنى بامرأة فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فجلد، ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان محصنًا فأمر به فرجم. وقوله صلى الله عليه وسلم: «الثيب بالثيب جلد مائة» ورجم بالحجارة متروك العمل بما روي في قصة العسيف أنه قال: يا أنيس اغد على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها. ولو وجب الجلد إذ ذاك لذكره. وأن قصة ما عز رويت من جهات مختلفة وليس فيها ذكر الجلد مع الرجم وكذا قصة الغامدية. وروى الزهري بإسناده عن ابن عباس أن عمر قال: قد خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائل: لا نجد الرجم في كتاب الله تعالى فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى وقد قرأنا «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة» فرجم النبي صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده.
فأخبر أن الذي فرضه الله تعالى هذا الرجم ولو كان الجلد واجبًا مع الرجم لذكره. قال الشافعي: يجمع بين الجلد والتغريب في حد البكر. وقال أبو حنيفة: يجلد.
وأما التغريب فمفوَّض إلى راي الإمام. وقوله صلى الله عليه وسلم: «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام» وكذا ما يروى عن الصحابة أنهم جلدوا ونفوا منسوخ أو محمول على وجه التعزير والتأديب من غير وجوب. وقال مالك: يجلد الرجل ويغرب وتجلد المرأة بلا تغريب. حجة الشافعي حديث عبادة «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام» وقد ورد مثله في قصة العسيف. حجة أبي حنيفة أن إيجاب التغريب يقتضي نسخ القرآن بخبر الواحد. بيانه أن إيجاب الجلد مرتب على الزنا بالفاء التي هي للجزاء، ومعنى الجزاء كونه كافيًا في ذلك الباب منه قوله صلى الله عليه وسلم: «يجزيك ولا يجزي أحدًا بعدك» وإيجاب شيء آخر غير الجلد يقتضي نسخ كونه كافيًا ولو كان النفي مشروعًا لوجب على النبي صلى الله عليه وسلم توقيف الصحابة عليه عند تلاوة هذه الآية ولو فعل لاشتهر. وقد روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الأمة «إذا زنت فاجلدها فإن زنت فاجلدها فإن زنت فبعها» والاستدلال به أنه لم يذكر النفي مع الجلد ونظيره ما روي أن شيخًا وجد على بطن جارية، فأتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اجلدوه مائة. فقالوا: إنه اضعف من ذلك. فقال: خذوا عثكالًا فيه مائة شمراخ فاضربوه بها خلوا سبيله. لا يقال: إنه إنما لم ينفه لأنه كان عاجزًا عن الحركة لأنا نقول: كان ينبغي أن يأمر له بدابة يركبها. ولا يقال: لعله كان ضعيفًا عن الركوب أيضًا لأنا نقول: القادر على الجماع كيف لا يقدر على الاستمساك. وأيضًا الأمر بالنفي لو كان مشروعًا لزم في حق العبد الإضرار بسيده في مدة غيبته، وفي حق المرأة الإضرار بزوجها، وكذا لمن يؤمر أن يكون معها من محارمها أو من النسوة الثقاة مع انفتاح باب الزنا عليها في الغربة، لهذا روي عن علي رضي الله عنه أنه قال في البكرين: إذا زنيا يجلدان ولا ينفيان فإن نفيهما من الفتنة. وعن ابن عمر أن امرأة زنت فجلدها ولم ينفها. وأيضًا النفي نظير القتل لقوله تعالى: {اقتلوا أنفسكم أو أخرجوا من دياركم} [النساء: 66] فإذا لم يشرع القتل في حد البكر وجب أن لا يشرع نظيره وهو التغريب. وأجيب بأن إيجاب الجلد مفهوم مشترك بين إيجاب الجلد مع إيجاب التغريب وبين إيجابه مع نفي التغريب فلا إشعار في الاية بأحد القسمين إلا أن عدم التغريب موافق للبراءة الأصلية.
فإيجابه بخبر الواحد لا يزيل إلا محض البراءة فلا يلزم نسخ القرآن به وهو قول الأدباء إن الجزاء سمي جزاء لأنه كافٍ في الشرط لا يصلح حجة في الأحكام. ولا استبعاد في عدم اشتهار بعض الأحكام كأكثر المخصصات والأخبار الواردة في نفي التغريب معارضة بما روى أبو علي في جامعة أنه صلى الله عليه وسلم جلد وغرّب. ولا بعد في أن يكون القادر على الزنا عاجزًا عن الاستمساك على الدابة والإضرار بالسيد قد يجوز للضرورة كالعبد المرتد يقتل، وعلى هذا يغرّب نصف سنة على الأصح لأنه يقبل التنصيف. وقيل: سنة كاملة لأن التغريب للإِيحاش وهذا معنى يرجع إلى الطبع فيستوي فيه الحر والعبد كمدة الإيلاء والعنة. وأما المرأة فلا تغرّب وحدها لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لامرأة أن تسافر إلا ومعها ذو محرم» فإن تبرع المحرم أو نسوة ثقاة فذاك وإلا أعطي أجرتهم من مالها أو من بيت المال فيه قولان، وتنتفي التهمة حينئذ مع أن أكثر الزنما إنما يقع بالألف والمؤانسة وفراغ القلب، وفي التغريب الأغلب هو الوحشة والتعب. وأما أن النفي يشبه القتل فمسلم من بعض الوجوه لا من كلها. واعلم أن قولنا {الزانية والزاني} إما مطلق دال على الجنسين المنافيين لجنس العفيفة والعفيف أو عام يشمل كل ما اتصف بهذه الفعلة الشنعاء فلابد من تقييد أو تخصيص وهو البحث الثالث فتقول: أجمعت الأمة على أنه لابد فيه من العقل والبلوغ فلا حد على مجنون ولا على صبي لأنهما ليسا من أهل التكليف. هذا في غير الرجم وأما في الرجم فلابد من شروط أخر منها: الحرية بالإجماع. ولا فرق بين القن والمدبر والمكاتب والمستولدة وحر البعض، والسبب أن الحرية توسع طريق الحلال لأن الرقيق يحتاج في النكاح إلى إذن السيد. ولا يجوز له أن ينكح إلا امرأتين، وجناية من ارتكب الحرام مع اتساع طريق الحلال أغلظ. ومنهما الإصابة في نكاح صحيح وقد يعبر عن هذا الشرط بشرطين: أحدهما التزويج بنكاح صحيح، والآخر الدخول. وكيفما كان فوجه الاعتبار أنه قضى الشهوة واستوفى اللذة فحقه أن يمتنع من الحرام. ويكفي في الإصابة تغيب الحشفة بلا إنزال، ولا يقدح وقوعها في حالة الحيض والإحرام وعدة الوطء بالشبهة، ولا يحصل الإحصان بالإصابة في ملك اليمين كما لا يحصل التحليل. وفي الإصابة بالشبهة وفي النكاح الفاسد قولان:
أحدهما أنه يفيد الإحصان لأن الفاسد كالصحيح في العدة والنسب، وأصحهما المنع لأن الفاسد لا أثر له في إكمال طريق الحلال.
وهل يشترط أن تكون الإصابة في النكاح بعد التكليف والحرية؟ الأصح عند إمام الحرمين لا، فإنه وطء يحصل به التحليل فكذا الإحصان. والأرجح عند معظم الأصحاب نعم، لأن شرط الإصابة أن تحصل بأكمل الجهات وهو النكاح الصحيح فيعتبر حصولها من كامل، وعلى هذا فهل يشترط كمال الواطئين جميعًا؟ قال أبو حنيفة: نعم وهو أحد قولي الشافعي فلو كان أحدهما كاملًا دون آخر لم يصر الكامل محصنًا ايضًا.
وقال الشافعي في اصح قولية: لا بل لكل منهما حكم نفسه. ومنها الإسلام عند أبي حنيفة لقوله صلى الله عليه وسلم: «من أشرك بالله فليس بمحصن» دون الشافعي لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا قبلوا الجزية فلهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين» ولحديث مالك عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم يهوديين زنيا. فلو حكم بشرعه فظاهر، ولو حكم بشريعة من قبله فقد صار شرعًا له، ولأن زنا الكافر مثل زنا المسلم في الحاجة إلا الزاجر ولهذا قلنا: إذا أقر الذمي بالزنا أقيم عليه الحد جبرًا بخلاف الشرب فإنه لا يعتقد تحريمه. ومما احتج به لأبي حنيفة أن النعمة في حق المسلم أعظم فكانت جنايته أغلظ كقوله: {يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين} [الأحزاب: 30] وعورض بأن الإسلام من كسب العبد. وزيادة الخدمة إن لم تكن سببًا للعذر فلا أقل من أن لا تكون سببًا لزيادة العقوبة. قالوا: إحصان القذف يعتبر فيه الإسلام بالإجماع فكذا إحصان الرجم والجامع كمال النعمة. وأجيب بأن حد القذف لرفع العار كرامة للمقذوف والكافر لا يكون محلًا للكرامة وصيانة للعرض. والجواب عن الحديث بأنا لا نسلم أن الذمى مشرك، سلمنا لكن الإحصان قد يراد به التزويج كقوله: {فإذا أحصن} [النساء: 25] والذمي الثيب محصن بهذا التفسير فوجب رجمه لقوله صلى الله عليه وسلم: «وزنا بعد إحصان» وبقوله: «عليهم ما على المسلمين» قال بعض أهل الظاهر: عموم قوله: {الزانية والزاني} يقتضي وجوب المائة على العبد والأمة إلا أنه ورد النصب بالتنصيف في حق الأمة، فلو قسنا العبد عليها لزم تخصيص عموم الكتاب بالقياس. ومنهم من قال: الأمة إذا تزوّجت فعليها خمسون لقوله: {فإذا أحصن} [النساء: 25] أي تزوّجن {فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات} [النساء: 25] فإذا لم تتزوّج فعليها المائة لعموم قوله: {الزانية} واتفاق الجمهور على حذف هذين. وقال الشافعي وأبو حنيفة: الذمي يجلد للعموم ولأنه صلى الله عليه وسلم رجم يهوديين فالجلد أولى. وقال مالكك لا يجلد بناء على أن الكفار ليسوا مخاطبين بالفروع.
البحث الرابع في طريق معرفة الزنا وأنه ثلاثة: الأول أن يراه الإمام بنفسه فيجيء الخلاف في أن القاضي هل له أن يقضي بعلمه أم لا؟ رجح كلًا مرجحون. وجه القضاء أنه يقضي بالظن وذلك عند شهادة شاهدين فلأن يقضي بالعلم أولى.
ووجه عدم القضاء أن فيه تهمة والتهمة تمنع القضاء ولهذا لا يقضي القاضي لولده ووالده. وهذا الوجه في حدود الله تعالى ارجح لأن الحاكم فيه مأمور بالستر ولهذا قال النبي في قضية اللعان «لو كنت راجمًا بغير بينة لرجمتها» ولا فرق على القولين أن يحصل العلم للقاضي في زمان ولايته ومكانها أو في غيرهما. وعن أبي حنيفة أنه إن حصل العلم فيهما قضى بعلمه وإلا فلا. الطريق الثاني الإقرار ويكفي عند الشافعي مرة واحدة. وقال أبو حنيفة: لابد من أربع مرات في أربع مجالس. وجوّز أحمد أن يكون المجلس واحدًا. حجة الشافعي قصة العسيف «فإن اعترفت فارجمها» والقياس على الإقرار بالقتل والردة مع أن الصارف عن الإقرار بالزنا قويّ وهو العار في الحال والقتل أو الألم الشديد في المآل، فالإقدام على الإقرار مع هذا الصارف لا يكون إلا عن صدق ويقين. حجة ابي حنيفة قصة ما عز وإعراضه صلى الله عليه وسلم عنه مرات حتى قال أبو بكر له بعدما أقر ثلاث مرات: لو اقررت الرابعة لرجمك رسول الله صلى الله عليه وسلم والقياس على الشهادة. وأجيب بأنه لا منافاة بين القضيتين فإن الأولى محمولة على أقل المراتب، والثانية على كمالها. والفرق أن المقذوف لو اقر بالزنا مرة سقط الحد عن القاذف، ولو شهد اثنان بزناة لم يسقط. الطريق الثالث الشهادة وأجمعوا على أنه لابد من شهود اربعة من الرجال لقوله تعالى: {فاستشهدوا عليهن أربعة منكم} [النساء: 15] ولقوله: {ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} والشهادة على الإقرار بالزنا كالشهادة على الزنا في أنه لابد من شهود اربعة. وفي قول يكفي فيه اثنان لأن الفعل مما يعسر الاطلاع عليه فلزم الاحتياط فيه باشتراط الأربعة والإقرار أمر ظاهر فيكفي فيه رجلان.
البحث الخامس: أجمعت الأمة على أن المخاطب بقوله: {فاجلدوا} هو الإمام حتى احتجوا به على وجوب نصب الإمام فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وقال الشافعي: السيد يملك إقامة الحد على مملوكه وهو قول ابن مسعود وابن عمر وفاطمة وعائشة. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يملك. حجة الشافعي أنه صلى الله عليه وسلم قال «أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم» وعن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال «ذا زنت أمة أحدكم فليجلدها» وحمل الأول على رفع القضية إلى الإمام حتى يقيموا عليهم الحدود، وحمل الثاني على التعزير خلاف الظاهر. وأيضًا إن ولاية السيد على العبد فوق الولاية بالبيعة فكان أولى. وأيضًا الإجماع على أن السيد يملك التعزير مع أنه في محل الاجتهاد فلأن يملك الحد مع التنصيص عليه أولى. حجة أبي حنيفة في قوله: {فاجلدوا} الخطاب للأمة بالتفاق ولم يذكر فرق بين الأحرار المحدودين وبين العبيد.